الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما سمع أبو جهل عليه اللعنة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه يا اللّه يا رحمن، قال لقومه إن هذا ينهانا عن تعدد لآلهة وهو يدعو إلهين أنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} أيها الناس فإنكم {أَيًّا ما تَدْعُوا} من أسماء اللّه تعالى فادعوه بها {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} المشتملة على معاني التقديس كالخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية وقد مرّ بيانها في الآية 8 من سورة طه المارة فراجعها.وما قيل إن اليهود قالوا لحضرة الرسول إنك تقل من ذكر الرحمن وقد ملئت التوراة من ذكره، فنزلت لا يصح، لأن الآية مكيّة بالاتفاق ولا يهود لهم صلة مع حضرة الرسول في مكة {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها} بحيث لا تسمع نفسك أو تسمع من هو خارج المسجد {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ} الجهر الزائد والمخافتة الكلية {سَبِيلًا} 110 حالا وسطا بحيث تسمع نفسك إذا كنت منفردا ومن بجوارك إذا كنت إماما.روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مختفيا بمكة أي مخف عبادته فيها أو أنه كان وأصحابه إذ ذاك يخفون صلاتهم خوفا من تعدي الكفار عليهم، وكان إذا خلا بأصحابه رفع صوته، فإذا سمعه المشركون يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال تبارك وتعالى لنبيه: {ولا تجهر}.هذا: ولهذا البحث صلة في الآية 108 من سورة الأنعام في ج 2 فراجعه، ورويا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، وأخرج الترمذي وابن قتادة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك، فقال إني أسمعت من ناجيته فقال إرفع قليلا» وقال لعمر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان فقال اخفض قليلا».فهذا على فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لأن الآية صريحة في الصلاة، وعلى كل الجهر بالدعاء والصلاة زيادة على الحاجة وهي اسماع من وراءه إذا كان إماما مذموم والمخافتة بحيث لا يسمع نفسه مذمومة أيضا، والمستحب الوسط في ذلك.قال ابن مسعود من أسمع أذنيه لم يخافت والجهر بأن يسمع من هم وراءه في الصلاة، أو إمامه في الدعاء فقط، والعدل رعاية الوسط قال صلّى اللّه عليه وسلم خير الأمور أوساطها.وقال تعالى: {جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} راجع الآية 143 من سورة البقرة في ج 3، والآية المارة 29 من هذه السورة، والآية 67 من الفرقان المارة.وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآية 154 من الأعراف المارة بعيد عن الصحة لأن الأعراف نزلت قبل الإسراء، والمقدم لا ينسح المؤخر قولا واحدا، لا خلاف ولا معارضة فيه، ورحم اللّه علماء الناسخ والمنسوخ ما اغلاهم وأحرصهم على القول به لمجرد بادرة.فلا حول ولا قوة إلا باللّه القائل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات اللّه، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن اللّه، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن اللّه، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} من الناس والملائكة والجن والأوثان، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن للّه شريكا تعالى اللّه عن ذلك {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة، فنزهه عن ذلك كله وعظمه {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 111 يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي، ونزه تنزيها كثيرا.وهذه الآية تسمى آية العز كما جاء في الحديث الصحيح، وإن من داوم عليها كان عزيزا محترما، ولهذا كان صلّى اللّه عليه وسلم يعلمها لكل غلام أفصح من بني عبد المطلب، فعلى الموفق أن يداوم عليها ليل نهار ليوقع اللّه في قلوب خلقه مهابته واحترامه ويضاعف له الأجر بتلاوتها.أخرج مسلم عن سمرة بن جندب قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحب الكلام إلى اللّه أربع: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر وسبحان اللّه والحمد للّه لا يضرك بأيهن بدأت.وعن ابن عباس قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء.عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحمد للّه رأس الشكر ما شكر اللّه عبد لا يحمده.وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال: خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال: «أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال السقم والضر قال صلّى اللّه عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟ قال بلى، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إلخ الآية، فأتى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني».وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و{الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية».وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لها: «إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد للّه الكافي، سبحان اللّه الأعلى، حسبي اللّه وكفى، ما شاء اللّه قضى، سمع اللّه لمن دعا، ليس من اللّه ملجأ ولا وراءه ملتجى، توكلت على اللّه ربي وربكم، {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره».هذا، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد للّه رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة اللّه تعالى وتوفيقه. اهـ
|